الاثنين

اللمسه الإنسانيه



من ذرائع المسلمين الشائعه بإن المعاناه كالصيام والحرمان من الطعام تجعلنا نحس بألام الأخرين، وهذا مايدفعنا الى الجود والإحسان ومساعدة الفقراء والمعوزين. فهل هذا صحيح؟ هل تحتاج الى أن تعذب نفسك لتدرك مدى حاجة الناس؟ أم هو تبرير سخيف لممارسة طقوس غير ذات معنى؟

ليس فقط أن هذا غير صحيح ولايوجد دليل فعلي عليه بل هناك إكتشافات علميه جديده تدل على العكس. إحسان معاملة الغير لا يحدث من خلال تجربة المعاناه والحرمان على النفس بل من خلال شيء أخر: إنها اللمسات الأنسانيه. لا اقصد هنا اللمسه المعنويه بل أقصد اللمس بالمصافحه والتربيت والتقبيل والضم و المسح على الرأس وحتى حب الخشوم كما نفعل هنا في الخليج. هذه التصرفات تزيد من تعاون الناس وإهتمامهم ببعض. هذا ليس مستغرباً، بل هو تصرف طبيعي مرتبط بنظرية التطور البيولوجي للبشر ولم يأتنا عن طريق التقاليد والدين والإيمانيات والغيبيات.

قرأت عن هذه التجربه التي اوردتها مجلة الإكونوميست
هنا، حين قامت العالمه ڤيرا مورهن من جامعة كاليفورنيا بسان دييغو وزملائها بتجربة دلت على أن الميكانيكيه السيكولوجيه للبشر تتجاوب مع اللمسات أو الأتصال الجسدي مع الأخرين. نُشرت هذه الدراسه في جورنال "إڤيلوشن أند هيومان بيهافير".



في هذه التجربه التي تمت على ٩٦ متطوعاً من الخريجين من الذكور والأناث وقسّموا الى ثلاث مجموعات. المجموعه الأولى حصل مشاركوها على تدليك من متخصص بالمساج بينما لم تتلقى ذلك المجموعه الثانيه والثالثه. ثم شاركت المجموعتان الأولى والثالثه فقط في لعبة "الثقه" وبقيت المجموعه الثانيه على الحياد. ثم تم أختيارالأفراد أثنان اثنان عشوائياً وتم إجلاس كل منهما أمام كومبيوتر. مفصولين جسدياً عن شريكهم الغير معروف وأعطي كل منهم عشرة دولارات نقداً. قواعد اللعبه تنص على أن لكل زوج من المشاركين يجب أن يكون احدهما المُعطي وبإمكانه أن يقدم جزء من مبلغه للأخر الذي يجب أن يكون الوصّي. ثم تتم مضاعفة هذا المبلغ في رصيد الوصيّ والذي يستلم تعليمات من الكومبيوتر تحضه التضحيه بجزء من رصيده بإعادته الى المُعطي.

وتقول النظرية ان الأفراد في هذه اللعبة ، من حيث المنطق ، يجب أن يحتفظوا بأموالهم بدلا من اظهار الثقة بتقديم الاموال على الفور للأخرين، وخاصة أنه لقاء واحد فقط بينهم وليس بداية لعلاقه طويله الأمد سيكون بها مصالح مشتركه للطرفين . المدهش ان الأفراد الذين تلقوا التدليك كانوا أكثر كرماً من غيرهم. وللتحقق من ذلك فسيولوجيا قامت الدكتوره مورهن بأخذ عينات دم من جميع المشاركين بالتجربه في بداية ونهاية التجربه، وسجلت مستوى هرمون الأكسايتوسين. وجدت الدكتوره بأنه ليس هناك من تأثر في عينات الدم الخاصه بالمجموعه التي لم تشارك باللعبه مما يعني أن الثقه لاتحتاج الى مثير أو "زر" لتحدث. ولكن في عينات اللاعبين كان الهرمون زائداً وبالذات في هؤلاء الذين تلقوا التدليك. رغم أن الاشارات التي كان يرسلها الكومبيوتر كانت متماثله عند الجميع إلا أن هؤلاء الذين تلقوا التدليك أعطوا أكثر وبنسبة تصل الى ٢٤٣٪ أكثر من زملائهم الذين لم يتم تدليكهم.



التدليك أو المساج بحد ذاته ليس هو السبب ولكنها تظافر بينه وبين إشارات الثقه والإتصال بين البشر هو ما أحدث الاثر الأكبر. لتفهم ذلك فكر كيف يقوم الناس بعقد صفقات الأعمال أو الأفراح ؟ انها المصافحه والتربيت على الأكتاف والتقبيل وغيرها من الملامسات الجسديه التي تجعل الناس أكثر إرتياحاً.

هل هناك قاعدة عامه تقول بأن الناس الذين يعانون و ينحرمون يصبحون أكثر سخاء؟ أي أن هؤلاء الذين أحسوا بالحرمان سيكون الكرم والسخاء من سمات شخصيتهم، ربما الى حد ما، ولكن هل هو ضروري ليصبح الانسان اكثر جودا وكرماً؟ لا فهذه التجربه تثبت العكس. هذه التجربه تمكنت حتى من قياس درجة السخاء التي تحدث من خلال اللمس الجسدي.هل نحتاج ان نصوم ونجوع ونعاني لنحسن الى الفقراء والمحرومين؟ بالتأكيد كلا. هل نحتاج الى تعذيب النفس وإجهادها بالصيام والنقاب والعذاب لنكون أناساً أفضل؟... أبداً.



من عادات رجال الأعمال اليابانيين ان يدعوا شركائهم ومن يريدون عمل بيزنيس معهم الى صالون التدليك"المساج" . ويكون هذا دائما قبل العشاء فربما يدركون هؤلاء اليابانيون أن هذا يوطد الروابط ويبنى عامل ثقة اكبر و يضع العميل في مزاج رائق مناسب لإتمام الصفقات. ذكرني هذا بقصة حدثت لي في شتاء زيورخ بفندق الشيراتون منذ سنوات.



كان حجزي قد ألغي بسبب تأخر رحلتي أو بالإحرى تأخري انا فطارت الطائره ثم لحقت بواحدة اخرى فألغي الحجز. ولكن في الفندق الذي يقع فوق هضبة جميله مطلة على زيورخ قاموا بترقية الحجز مجاناً الى غرفه سويت لعدم وجود غرف عاديه متوفره، شيء لم أمانعه بالطبع. وفي قاعة الاستقبال المخصصه للعملاء الڤي .أي . پي (مثل حضرتي.. إحم إحم) كانت هناك فتاة ظننتها سويسريه بداية ولكنها طلعت ألمانيه، وكانت شقراء جميله كالورده المتفتحه في ثلوج زيورخ العاصفه، ثم أخبرتني بأنها عملت في أبوظبي من قبل وكانت فرصة أن أتعرف عليها ولكنها صدتني معتذرة بانها مرتبطه..ثم اخذتني الى غرفتي وشرحت لى ميزاتها وغادرت ولكنها تركت الباب مفتوحاً...فذهبت لأغلقه فوجدت هناك رجل في منتصف العمر يقف أمام الباب يبدو انه من النزلاء، قال لي بلهجة أمريكيه نيويوركيه: كم هي غرفتك جميله..فرددت المجامله وشرحت له كيف حصلت عليها فعرفني بنفسه وقال على فكره! يوجد هنا بالفندق مكان تدليك عظيم مارايك ان نذهب هناك فالجو بارد ونستطيع بعد التدليك ان نسبح عرايا في حمام السباحه الدافيء؟؟ وهنا تلعثمت وأعتذرت بأن عندي مواعيد بالمدينه ولم اتخلص منه إلا بعد ان أصر أن يعطيني هاتفه وهو متأمل أن أشاركه في اليوم التالي، ولحسن الحظ تمكنت من تفادي رؤيته في الأيام الثلاث التي سكنت فيها بالفندق، ولم أرد على الرسائل التي كان يتركها لي في تلفون الغرفه.. فبدل الحصول على اللمسات الإنسانيه من الألمانيه الحلوه ، يطلع لي أمريكي عجوز ولكنه الحظ العاثر ، يقول المتنبي صلى الله عليه وسلم:

وكل امرئٍ يولي الجميل محببٌ ... وكلُّ مكانٍ ينبتُ العز طيبُ


بن كريشان

ليست هناك تعليقات: