الاثنين

الرجل ذوالصحيفه



قصة قصيره

كان قبل خمس سنوات تقريبا عندما رأيت هذا الرجل لأول مره. كنت بأوتوبيس المواصلات العامه جالسا في الصف الخامس الى اليمين،عندما توقف الباص عند محطة المنتزه.. وصعد اليه هذا الرجل

لم يكن به شيء مميز فهو متوسط الطول بملامح عادية جدا، ليس بأسمر وليس بابيض ويرتدي ثيابا رمادية اللون تبدو اصغر من مقاسه، ولديه لحية صغيرة غير مهذبة يشوبها بعض البياض .. وكان يحمل بيده جريدة مطوية بالطريقة التي تفعلها عندما تريد قتل ذبابة بها

صدقوني أنا لاأعرف اسمه حتى الان، وبعد مرور تلك السنوات الخمس. سار هذا الرجل ذو الصحيفة المطوية في ممر الباص ثم جلس على الكرسي خلفي مباشرة، وما ان انطلق الباص في رحلته الى المحطة التاليه، حتى احسست بشيء يلمس رأسي، وكأن ذبابة قد حطت عليه، فنظرت الى الخلف، لم يكن هناك أحد غيره، عدت اراقب أعمدة النور التي تمر على نافذة الباص وهو ينطلق ..وفجأة أحسست بمن يضرب رأسي، لقد كان نفس الرجل يضرب رأسي بجريدته، ليس بقوة وانما بخفة عجيبه وطريقة ميكانيكيه وكأنه يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة ..والتاليه


ألتفت اليه ونظرات الغضب تملأ عيني وصرخت به: هل أنت بمجنون؟ لايبدو وكأنه يسمعني، فلقد إستمر بالطرق الخفيف المتواصل غير عابيء بغضبي واحتجاجي. لم تصدر منه اية ردة فعل و لا انفعال ولا حتى احساس وكأنني أتكلم مع ورقة من الخس

قررت النزول عند المحطة القادمه، فلابد انه أحد المجانين الطليقين في الشوارع والذين لا يجدون لهم مكانا في المصّحات العقليه. ربما كان مجنونا مسكينا خرج من بيت أهله وهم يبحثون عنه الان..وحالما نزلت في محطة الاستاد الرياضي، حتى نزل معي وصار يمشي خلفي..يحث الخطوات حتى اقترب الي مسافة تمكنه من معاودة الطرق بجريدته على رأسي..تك..تك..تك طريقة ميكانيكية منضبطه كعقارب الساعه وكأنه يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة والتاليه

درت بجسمي وواجهته، ولكنه استمر بالطرق على راسي بجريدته، فسحبتها من يديه ورميتها بعيدا فاستدار مذعورا يبحث عن جريدته، انتهزت تلك الفرصة وهربت الى الشارع الجانبي وجلست على احد كراسي الانتظار لأخذ الاوتوبيس رقم ٤٢ الى بيتي



وفجأه، احسست بالطرقات المزعجة فوق رأسي مرة اخرى، طرقاته ليست مؤلمه ولكنها متوالية بطريقة ميكانيكية منضبطه كعقارب الساعه وهي من النوع المزعج جدا مثل الذبابة التي تحط على نفس الجزء من جسمك مرة تلو اخرى ولاتستطيع التخلص منها.. لقد كان يطرق على رأسي وكأنه يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة والتاليه. لقد وجدني اللئيم وعاد يفعل الشيء ذاته، فقلت له بأنني سأنادي على رجل الشرطة ان لم يتوقف عن ازعاجي، ولكن وكأنني أتكلم مع ورقة خس، استمر الرجل ذو الجريده.. تك..تك..تك يطرق بطريقة ميكانيكية منضبطه كعقارب الساعه ..وكأنه يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة والتاليه

(٢)

فصرت اسير بسرعة كبيره، وهو يمشي ورائي يطرق بجريدته على رأسي، وصار يلهث من التعب وهو يحاول بمشقة اللحاق بي ليستمر بطرقانه على رأسي، وهنا ادركت ان هذه هي نقطة ضعفه فأن جريت بسرعة اكبر فسيصيبه الاعياء ويستسلم ، وربما يسقط ويموت بسكتة قلبيه..فأطلقت ساقي للريح اجري باسرع ما اقدر عليه، وانا اسمع صوت تنفسه المجهد ولهثاته من خلفي يحاول اللحاق بي، ان بيتي ليس ببعيد جدا من هنا فأن تابعت الجري لمدة اربعين دقيقه ، فسأصل الى هناك بعدما يكون هذا الرجل المجنون ذو الصحيفه المطويه، قد ضاع واختفى

وهذا ماحدث بالفعل، فعندما بلغت شارعنا، لم يكن له اثر من خلفي، فتوقفت عن الجري وصرت امشي بصورة طبيعيه.ولكن كلها دقيقه حتى عاد ذلك الطرق المنتظم الميكانيكي المنضبط على رأسي، وكأنه عقارب الساعه، لقد كان هو نفس الرجل ذو الصحيفه وكأنه، يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة والتاليه بجريدته على رأسي


وهنا فقدت اعصابي وصبري ولكمته بكل قوة في وجهه..فسقط مترنحا على الارض، ثم قام والدم ينزف من مناخيره، ونفض الغبار الذي علق بثيابه الرماديه التي تبدو اصغر من مقاسه، والتقط صحيفته وطواها كمن يريد ان يقتل بها ذبابه..وعاود الطرق على رأسي.. تك..تك..تك يطرق بطريقة ميكانيكية منضبطه كعقارب الساعه وكأنه يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة والتاليه

(٣)

ظل يمشي ورائي حتى باب العماره، فصرت اصرخ به ايها المهووس ايها المجنون اذهب لبيتك، ثم توقفت عن الصراخ على ضحكات بعض الماره الذين كانوا يشهدون تصرفاتنا الغريبه

تبعني حتى باب الشقه، حاولت منعه من الدخول ولكنه تغلغص بين الباب و بيني ودخل الى الشقه، ومنذ ذلك الحين وهذا الرجل يعيش معي..خمس سنوات حتى الان ، نحن لا نتكلم معا ابدا ولكنه يستمر بطرق رأسي بجريدته المطويه، في البداية لم استطع النوم بسبب طرقاته على رأسي ولكنني تعودت عليها الان..لابل أصبحت لا استطيع النوم بدون ان احس بهذه الطرقات المتواصله.. تك..تك..تك انه يطرق بطريقة ميكانيكية منضبطه كعقارب الساعه وكأنه يحسب الوقت الفاصل بين كل طرقة والتاليه

أن علاقتنا غريبة جدا الان، فرغم انني حاولت وبشتى الطرق والاساليب أن أقنعه بأن يتركني لحالي من دون جدوى..فكأنني اتكلم مع ورقة من الخس . جربت ان اذهب الى مركز الشرطه ولكنهم قالوا انه لايسبب لك اي ضرر ولا يزعج الاخرين- وكم ضربته ولكمته ورفسته- بدون فائده فهذا الرجل يعتقد انه في مهمة من اجلي، لابد انه يظن انه يساعدني بعمله هذا ويريح ضميره وهذا ربما كان سر اصراره. لقد فكرت حتى بقتله او ربما قتل نفسي. صار جزء من حياتي يذهب معي للعمل ويستقل معي الباص و يرافقني للسوق وهو يطرق بجريدته على رأسي تك..تك..تك

(٤)

الان وبعد مرور خمس سنوات مازال هذا الرجل يقوم بمهمته من الطرق على رأسي، ومازلت اجهل حتى اسمه.. لقد ذهب غضبي منه وتعودت عليه، لقد صار جزء من حياتي لا اتخيل العيش بدون هذه الطرقات الخفيفه المنتظمه كعقارب الساعة على رأسي


وبعد الخمس سنوات هذه صرت اعيش في هاجس اخر يقلقني..ماذا سأفعل لو رحل هذا الرجل واختفى يوما ما؟ ماذا لو مات وتركني؟ كيف سأنام؟ كيف سأكل ؟ كيف سأشرب قهوتي؟ بدون احساسي بتلك الطرقات تك..تك..تك الميكانيكية المنضبطه كعقارب الساعه وهو يحسب الوقت الفاصل بين.. كل طرقة والتاليه

****

بن كريشان




ليست هناك تعليقات: