الاثنين

السفاح والفتاة البريئه



من قصص الخيال التاريخي

: مقدمه

اربعة الالف سنه قبل الميلاد و في الجزء الغربي من صحارى الرمال ، رجل يمشي وحيدا في طريق جبلي ملتوي ، له لحية رمادية كبيره و جسم قوي بقامة طويله تنعكس هيبتها على ظله الطويل الذي يرافقه منعكسا على حجارة الوادي الايمن. يرتدي ملابسا خشنه و قد تدلى من حزامه سكين كبيره تتلألىء بانعكاسات شمس الظهيرة عليها. علق على ظهره سيفا داخل غمد جلدي بينما حمل بيده هراوة يستعين بها احيانا في مشيه و التوازن مع ثقل كيس الزاد الذي يحمله على كتفه. لقد مشي في هذا الطريق من قبل فهو يتجنب بمهارة الصخور و يعرف العلامات التي ستوصله الي المكان الذي يقصده

: الفتاة البريئه

كان الرجل الوحيد مستمرا في المشي في نفس الطريق ذلك اليوم عندما رأى من بعيد و في الاتجاه الاخر رجلا على صهوة جواد، يتبعه صوت يشبه بكاء فتاة..حط أحماله ارضا و قبض على سيفه و وقف الي جانب الوادي الصخري حتى أقترب الرجل على الحصان ، كان يجر خلفه فتاة مكبلة من يديها بحبل طويل ينتهي طرفه الاخر في سرج الحصان..كانت فتاة صغيرة لم تتجاوز الخامسة عشر، على محياها كل سمات البراءه..ما أن نظرت اليه الفتاة حتى صاحت به مستجدية: أرجوك ساعدني ، التفت الرجل الذي كان على صهوة الجواد اليه و ابتسم بسخريه و هو يرمق الرجل الوحيد الذي كان ممسكا بسيفه وقال : لو كنت مكانك لمشيت في سبيلي.. فأنا من رجال النمرود ..مازالت الحروق التي بجسم الرجل الوحيد تذكره بالمرة التي حاول فيها رجال عصابات النمرود حرقه بالنار في احدى معاركه السابقه. استدار متظاهرا بالمشي بعيدا..و ما أن سمع صوت حدوات الحصان تطرق الطريق الصخري مبتعدة ..حتى عاد كالبرق من خلف الحصان..فقطع الحبل الذي يربط يد الفتاه و قبل ان يلتف الفارس بالحصان كان الرجل الوحيد قد غرس سيفه في احشاء الفارس الذي سقط ارضا..و هو ينزف..فما كان بالرجل الوحيد الا ان أجهز عليه خنقا بالحبل نفسه..حتى فارق الحياة

كانت الفتاة البريئه قد فتحت عيناها للتو ، من فرط الهلع غير مصدقة ماحدث، فعدد من الرجال شاهدوها و سمعوا صياحها و لم يجرأ منهم . .احد على انقاذها من الفارس الذي سباها

الفتاة البريئه : ياألهي.. كيف فعلت ذلك ؟
الرجل الوحيد : لا يهم هذا ..أنت حرة الان- قال ذلك و هو ينظف سيفه من الدم
الفتاة البريئه : كيف لا يهم..لقد انقذت حياتي..كيف سأرد لك الجميل؟
الرجل الوحيد : بأمكانك بأن تتوقفي عن الكلام و تستعجلى الرحيل قبل ان يستأخره النمرود فيرسل رجالا اخرين في طلبه
الفتاة البريئه : ولكن اخبرني هل جرحت؟ ماهذا الذي على جبهتك؟
الرجل الوحيد : بقايا حروق قديمه من معركة سابقه..لايعنيك الامر..استعجلي بالرحيل
الفتاة البريئه : هل استطيع ان امشي معك..حتى اجد مكانا..فقد فتكت عصابة النمرود بكل عائلتي
نظر اليها الرجل الوحيد ، و اشار ايجابا ..ثم وضع احماله على كتفه و تابع المسير
الفتاة البريئه : أنا اسمى أوريكه..ما اسمك انت؟
الرجل الوحيد: ابرام..اسمي أبرام
الفتاة البريئه : الي اين وجهتك يا أبرام؟
وجهتي هي الحصول على الحكمه.. قال الرجل الوحيد و هو يواصل السير حثيثا و بجانبه الفتاة البريئه و التي كانت توازي نصف قامته تقريبا



: في رحلة المسير


قبل حلول الظلام بدأ برد الصحراء يدب في جسم اوريكه الفتاة البريئه، فوضع ابرام الرحال تحت شجرة سمر خارج الوادي و ذهب يبحث عن اغصان ليستوقد النار، بينما تلمح أوريكه أرنبا بريا نائما خلف صخرة ..فتذهب تدب ببطيء، فالارانب لا ترى جيدا في الظلام. تفاجيء اوريكه الارنب النائم وتمسكه من اذنيه. من مهارات اوريكه الفتاة البريئه سرعة الحركه و خفتها، تقوم الفتاة البريئه اوريكه بذبح الارنب .وتنظيفه و اعداده للعشاء. ثم تقوم بشويه على صخرة وضعتها في قلب الوقيد الذي اشعله أبرام

أبرام : لقد كان الارنب لذيذا، لقد خشيت ان يكون قد حدث لك شيء عندما لم أجدك تحت الشجره
أوريكه: شيء مثل ماذا يا ابرام؟
أبرام : كنت قد خشيت ان يكون رجال نمرود قد عادوا في أثرنا
أوريكه: هل هم كثيرون؟
أبرام : انهم أكثر من مئه، لقد كنت احد رجاله في الماضي و لكنه اتهم بعضنا بالخيانه لأننا لا نتبع طقوس العصابه فقام بحرقنا احياء ، كلهم ماتوا الا انا... كنت الوحيد الذي نجا من الحرق
أوريكه : كيف نجوت بنفسك يا أبرام؟
أبرام : لا ادري، كان صوتا في داخلي يقول لي لن تأكلك النار..لن تأكلك النار، ستنجو بفضلي لأنني سأعطيك حكمة..لااتذكر عندها شيئا مما حدث..كأنه حلم استيقظت على آلام الحروق الصغيره بعد يومين في الصحراء وحيدا
أوريكه : و لكن من الذي كان يكلمك، وهل عرفت كيف انقذك؟
أبرام : لا أدرى و لكنه الصوت الذي سيعطيني الحكمة و القوه و هو الذي انقذني من النار و هو مازال يكلمني من فترة لأخرى لأفعل مايشاء فيعطيني الحكمه
أوريكه : ولكن جسمك كله حروق و جروح و يبدو عليه الانهاك كمن خاض قتالا مريرا
أبرام : لا عليك من جسمي...أخلدى الي النوم..فأمامنا طريق طويل


: الصوت الخفي

استيقظت اوريكه الفتاة البريئه صباح اليوم التالي باكرا بسبب برودة الهواء البري و لا حظت ان الوقيد المختلط بعظام الارنب البري المتفحمه قد انطفىء او قد اطفأه احد فكثير من الاغصان كانت لم تشتعل بعد ، و لم يكن ابرام موجودا، مشت تبحث عنه، ثم لمحت جسمه الهائل بعيدا يجرى بتخبط و كأنه ثمل او اصابه مس. صاحت به : ابرام ..ابرام.. و لكنه لا يسمعها، ركضت نحوه حتى ادركته، و كان قد جثا على ركبتيه و امسك براسه بين كفيه و هو يدمدم..بكلام غير مفهوم، أمسكت به اوركيه و هزت بعنف حتى استيقظ، ماذا بك هل انت بخير؟ قالت اوريكه، لا شيء..لاشيء اجابها ابرام

و في الطريق اثناء المشي ادركت اوريكه انه لا يتذكر كيف اطفيء النار و لكنه كان في كابوس حيث كان يكلمه احد و لا يتذكر كيف مشي اثناء نومه الي طرف الوادي البعيد

أوريكه : هذا مخيف جدا يا ابرام، فالنذهب لكاهن او ساحر يرقيك من هذا فقد يكون مسا من الجن و قد يقتلونك فترمي نفسك من شاهق
، ابرام ينظر اليها قليلا و يتابع مسيره و هو يقول..انه داعى الحكمه، انه الصوت الذي يرشدني


: على مدخل القريه

أقترب ابرام من حارس على الوادى الضيق الذي يشكل مدخل القرية الكبيره التي تسمى المقه ، الذي صاح بأبرام توقف..ولكن ابرام مضي باتجاهه مسرع الخطو، سحب الحارس سيفا و لكن لم تكن لحظات الا ان امسك ابرام بيد الحارس التي بها السيف و طعنه بسكينه الكبيرة فسقط صريعا، صاحت اوريكه غير مصدقة ماترى : ماذا تفعل لم قتلت الرجل؟ و لكن يبدو ان ابرام لا يسمع فانطلق الي داخل القرية بينما كان الناس يتجنبونه و يزيحون عن طريقه. تستمر اوريكه مغالبة دهشتها تسير وراءه.. و كأنه يعرف المكان غيبا فهاهو ينسل الي احد الممرات الضيقه بين البيوت الحجريه و يرفس احد الابواب الذي ينكسر بقوته المهوله.. ثم يندفع الي الداخل منحني الرأس ليتمكن من الدخول بسبب طول قامته، و قبل ان تتمكن اوريكه من الدخول خلفه.. يعود خارجا فيدفعها جانبا لتسقط ارضا..رفعت اوريكه رأسها و هي تسمع صراخ و بكاء و صيحات توسل و رجاء ....فرأت ابرام يجر بيديه طفلا يكاد يكون في السادسة من عمره يبكي و من خلفه امه تنتحب و تستجدى الناس ان يخلصوا ابنها من يد السفاح

***
السفاح..تمتمت اوريكه بينها و بين نفسها عند سماع ذلك الاسم ، ثم قامت من سقطتها و سألت احدى نساء القريه التي وقفت تصفق بيديها حسرة...مالذي حدث؟ أين السفاح؟ اجابت المرأة: ابرام السفاح.. قاتل الاطفال، انه يعود كل بضع من السنوات فيخطف احد اطفال قريتنا ليذبحه قربانا فوق الجبل للصوت الخفي الذي يسمعه..الجميع هجّر و اخفى اطفاله ..هذه المره انظري..لقد اخذ ابنه هو ليذبحه، لقد زاد المس به هذه المره فهو ذاهب يذبح ابنه الوحيد اشمون، سمعت اوريكه في قريتها في الماضي عن سفاح الاطفال في قرية المقه و لكن لم يكن يخطر ببالها ان يكون مخلصها من السبي ابرام...هو نفسه سفاح الاطفال

لم يكن احد يجروء على اعتراض طريق ابرام السفاح خوفا من ان يلقى المصير ذاته الذي لقاه الحارس و كثير من الشجعان من قبل، و لكن اوريكه لم تأبه بتحذيرات اهل القريه فشقت الجموع و انطلقت خلفه

: بين القرية و مذبح القرابين البشريه على الجبل


لم تستطيع اوريكه الفتاة البريئه اللحاق بأبرام الذي كان يسير اسرع منها فقررت ان تسلك طريقا مختصرا في الوادي و تلاقيه وجها لوجه عند العقبة الاولى..وهاهي تنجح، فيقف ابرام ممسكا بقبضته الحديديه على يدا ابنه اشمون المذعور

أوريكه الفتاة البريئه : ماهذا الذي تفعله يا أبرام؟ كيف تقتل طفلك؟..حتى الحيوانات لا تفعل هذا..اجننت توقف عن هذا و ارجع
أبرام سفاح الاطفال : اذهبي بعيدا يا أوريكه فالصوت الخفي الذي سيعطيني الحكمه هو الذي يأمرني بذلك..ابتعدي عن طريقي
أوريكه الفتاة البريئه: لن ابتعد حتى تترك الطفل اشمون و تعود الي عقلك
قام ابرام بالتقاط الحجاره و رميها على اوريكه الفتاة البريئه و التي هربت بعيدا بين الصخور..و لكنها لم تيأس..فقامت بتسلق الصخور و النزول من الوادى المقابل حيث اعترضت طريقه مرة اخرى عند العقبة الثانيه

اوريكه الفتاة البريئه : أبرام ..لا يمكن لمعطي الحكمه ان يأمر بالقتل..بل قتل الاطفال الابرياء.انه صوت الشر.وليس صوت الحكمه
ابرام سفاح الاطفال : أنه صوت الحكمه، يتحدث اليّ ليختبرني و أنا اسمعه..ماذا تعرفين انت ايتها الصغيره؟ لو كنت تسمعين ما أسمع لفعلت الشيء ذاته
أوريكه الفتاة البريئه : لا، لن أفعل ذلك، سأتحدى الصوت الخفي و أقول له لم تطلب منى ان أقتل بينما تعتبر الحكمه القتل من كبائر الجرائم..سأقول له كيف تتناقض يامن تدعي انك صوت الحكمة مع نفسك.. لن اقتل طفلا مهما أراد ان يختبرني، فالنجاح في الاختبار هو رفض الخطأ وليس تنفيذه الأعمي

يقوم ابرام الذي بدا عليه الارتباك من جدال و منطق الفتاة البريئه بألتقاط الحجارة و حذفها باتجاه اوريكه التي تتجنب الاصابة فهي تجيد خفة الحركة و سرعة المناوره.. لم تيأس مرة اخرى فهناك عقبة اخيره قبل الجبل الصغير حيث كانت تقدم القرابين البشريه..فتصل عند العقبة و تصيح فيه باكية: كيف تكون انت منقذي و مخلصي سفاحا قاتلا..لم انقذتني اذا..ان لم يكن بقلبك رحمه ؟ هذا الصوت صوت شر، الصوت الخفي صوت مارد او شيطان فما من صوت حق وحكمه يدعوك الي قتل ابنك اشمون. اعقل يا ابرام و عد عن امرك
****

وقف أهل القرية يراقبون من بعد الفتاة البريئة و شجاعتها في مواجهة ابرام السفاح...الذي عاد يرميها بالحجاره فقفزت بين الصخور تحاول تجنب رمياته، عندها رأت راعي خرفان في الواد الاسفل، مرت عليه مسرعة ، تجري متسلقة الجبل الصغير من الناحية الاخرى ، و ما أن وصلت الي القمة ..رأت أبرام قد أوثق أبنه أشمون بالحبال الي صخرة على القمه..و بدأ يدمدم بنفس الصوت الذي كان يصدره من قبل عندما رأته في الوادي في نفس الحاله الهستيريه ، عرفت انه في لاوعيه و انه لن يحس باقترابها ، نظرت ..فرأته قد القي كيس احماله و هروته على الارض و أمسك بيده تلك السكين التي كانت تعكس ومضات شمس الظهيرة، وقد أستعد لذبح أبنه..تلتقط الفتاة البريئة اوريكه الهرواة من الارض وتباغته من الخلف، فتضرب بها رأسه ، فيقع مغشيا عليه
***
تقوم أوريكه الفتاة البريئه بحل وثاق الصبي و تبدأ بالنزول معه على سفح الجبل الصغير..عندها رأت راعى الخرفان الذي مرت به قبلا....فخطرت لها فكره

: بعد مرور ساعة من الزمن

يستيقظ ابرام، و الالم في رأسه..وغشاوة على عينيه سرعان ما بدأت في التجلي..نظر فرأى خروفا مذبوحا علي الصخرة، ثم نظر الي يديه فوجد سكينه الكبيره اللامعه في يديه تقطر دما، نظر الي خلفه فرأى الفتاة البريئة وهي تحتضن اشمون ابنه، التفت اليها و قال: اوريكه بالله عليك مالذي حدث؟ اخبرته الفتاة البريئه ان الالهة كانت تمازحه فقط فجعلته يفقد وعيه و انزلت
له خروفا من السماء يفتدى دم ابنه
وماذا بعد يا اوريكه؟ قال ابرام
أوريكه الفتاة البريئه : سمعت الصوت الخفي يكلمك، سمعته بكل وضوح
ابرام سفاح الاطفال : الم أقل لك هناك صوت يحدثني؟ ماذا كان يقول؟
أوريكه الفتاة البريئه : قال الصوت الخفي اليوم صدقت باختبارك يا ابرام و لن تقتل طفلا بعد اليوم
ابتسم ابرام مرتاحا..وقرر ان يتوقف عن قتل الاطفال..ورحل عن قرية المقة ..ولم يعد منذ ذلك اليوم

: الخاتمه

كانت فرحة الناس في قرية المقة لا توصف، فأقاموا طقوسا يتذكرون بها الفتاة البريئه التي أنقذت اطفالهم من السفاح ابرام..وحتى الان و بعد مضي الاف السنين مازال الناس يذهبون الي قرية المقه و يمشون الي جبل الضرائح البشريه يرمون الحجارة عند كل عقبة استوقفت فيها الفتاة البريئه السفاح ابرام بشجاعه و يذبحون الخرفان تخليدا لذكراها

اختلطت الامور على الناس الان و نسوا الفتاة البريئه.. و نسوا لمن يلقون الحجاره..ولكنهم مازالوا يلقونها في نفس المكان

بن كريشان

ليست هناك تعليقات: