دراكولا...المسيح




تسلمت بطاقه بريده غير متوقعه من رومانيا ، من زوجين لطيفين قابلتهما هناك. تحمل البطاقه صورة المكان الذي التقيتهم فيه. معايده بعيد الميلاد ظن مرسليها ان العين بلاد بعيده..مثل الاسكا فأرسلوا بطاقتهم مبكرا..لتصل في الموعد

كما تعلمون كنت فقد قضيت اجازتي الصيفيه الماضيه ، او حوالي عشرين يوما منها بين رومانيا ، سلوفانيا و تركيا. و كنت قد كتبت احد مقالاتي من حانة امينسكو التاريخيه في منطقة سنترال ببوخاريست. و مع ان حانة امينيسكو هي ملتقي لكثير من المثقفين و الكتاب فلم احظ بشرف التعرف على احدهم و ان كنت قد حظيت بذلك فلم اكن لأفهم مايقولون بلغتهم التى تشبه الايطاليه. و في يوم من الايام طلبت من الكونسيرج بالفندق ان يقترح علّى مكانا جديدا، فأعطاني اسم بيكر *بروو

بعد رحلة تاكسي قصيره كنت في حانة المانيه تحمل الاسم السابق و تشرحه باللغة الرومانيه بيراري جرمانيا و هي من تلك الحانات التي يتم انتاج البيره الطازجة بها. كان المكان يشبه القبو الطويل، المقاعد الطويله المشتركه من الخشب القديم التي تشبه مقاعد الحدائق العامه، و تنتشر براميل البيره السوداء في كل مكان و يعبق المكان برائحة تشبه رائحة الخبز

يعج المكان بالناس ، اخير و بعد انتظار قليل، طلبت اذنا من اثنين كوبل، ان اشاركهم الطاوله، و لدهشتي اجابنى الرجل بلغة انجليزيه قائلا بالطبع..جاء النادل الذي لا يجيد اللغه الانجليزيه فطلبت باينتا من بيرة المحل، و لكنه استمر في سؤالي ..وبينما انا مرتبك ، نظرت الي الرجل الذي يقابلني لعله يساعدنى على الترجمه، فتبسم و قال: انه يسألك كم مترا تريد؟ فضحكت متعجبا! مترا من ماذا؟ البيره، اجاب الرجل: كم مترا من البيره ؟ فرفعت كتفي و هززت رأسي باستغراب و حيره..فتبسم و قال للنادل شيئا فذهب، و قال بلغة انجليزية سليمه تشوبها لكنة شرق اوروبيه: سترى الان لقد طلبت لك نصف متر كبدايه و ستعرف مالذي يقصده، اعتقد ان الالمان يبيعون البيره بالمتر..وضحك. مد يده و صافحني : انا ميرجه – بالجيم الفارسيه- و هذه زوجتي ماريانا.

اليوم و انا اقرأ اسمه على البطاقه فهمت ان اسمه هو ما يقابل اسم مارسيل بالفرنسيه و يكتب بحرف السي الذي ينطق تشا بالروماني. جاء النادل يحمل لوحا خشبيا مسطحا، صف عليه عدة كؤوس من البيره ووضعه امامي. اشار ميرجه الى اللوح و قال: انظر هذا طوله نصف متر، عادة هذا يكفيني انا و زوجتى معا، ضحكت و قلت كثيرهذا علّى.. يجب ان تشاركاني فأنا لوحدي لا استطيع ان اشرب نصف متر من البيره..ثم قال لي من اين انت؟ اكاد اقسم انك تشبه الرومانين فقلت له من اين انا، استغربت ان هذين الزوجين يعرفام الكثيرعن دبي... و ليس الامارات

كانا مثقفان جدا، و كان الحديث معهم متعة، ملئتني بهجة في رحلة كنت بها وحيدا، كان ميرجه بطولي تقريبا حليق شعر الرأس تماما و سكسوكه خفيفه مع قرط في اذنه اليمنى يرتدى جاكت بدون ربطة عنق اما ماريانا فهي شقراء بشعر ثائر ترتدي تنورة اشبه بتلك اللاتي يلبسنها الغجريات و بلوزه قصيره تكشف بطنها المسطح مع بيرسنج من الذهب على سرتها، كانت تحمل ملامحا اوروبيه اكثر، بينما كان هو اقرب الي شكل عرب سوريا او لبنان، تعمل هي مدرسة رقص بأكاديمة الرقص الرومانيه بينما يعمل هو باحثا في علم اللغات المقارن للدول الاوروبيه الشرقيه و لديهم طفل عمره ثلاث سنوات و كان الاثنان متعاطفان بطريقة غير معقوله مع القضايا العربيه

انا لا اتذكر متى اعطيتهم عنواني، ربما بعد عدة امتار من البيره! ..كنت قد نسيت حتى اسمائهم و لكن هذه البطاقة البريديه اعادت لي الذاكره..وتذكرت حديثنا، حيث تناقشنا ..كعادتي..عن الاديان، فسرد ميرجه قصة قصيرة لكاتب روماني لا اتذكر اسمه طبعا و لكن سأحاول ان اركب القصه باللغة العربيه لقرائي الاعزء كما سمعتها..و ارجو ان اتمكن من روايتها ..بنفس الطريقه التى سردها ميرجه

في السماء البعيده ، و في ناحية من نواحي درب التبانه، كان السيد المسيح يتمشي ، يضّيع الوقت و هو يشعر بالملل، بانتظار نهاية العالم حتى يأذن له ابيه الرب بالعوده الي الارض. لقد مضت اكثر من الفى سنه حتى الان، و هاهو يتأمل هذا الكون الفسيح الذي صنعه ابيه و يرنو بعينيه الي ذلك الكوكب الازرق، الارض الذي ولد فيه، و قدمه ابيه قربانا لفداء هؤلاء البشر الذين احبهم ليخلصهم من الذنب الذي القاه عليهم .الفى سنه و مازال ينتظر، متى ياترى ينهي ابيه هذا الانتظار الممل فقد شاقت نفسه الي رؤية الارض مرة اخرى..جلس يتأمل الهدية التى قدمها له ابيه في عيد ميلاده الاخير و كانت عبارة عن.... آلة الزمن

ولكن لم لا؟..لم لا يزور الارض؟ فمن سيعرفه الان بعد هذه السنين، ربما يذهب الي مكان بعيد غير متوقع، لن يذهب الي بيت المقدس او بيت لحم، ربما مكان أخر لا يعرفه، لقد أخبره ابيه دائما ان كثيرا ممن آمنوا به اصبحوا الان في القارة الاوروبيه الشماليه و ليس في الاراضي المقدسه بالشرق، انه يحتاج اجازه، بعض التغيير فقد سئم الانتظار الطويل في السموات

دخل المسيح الي آلة الزمن الزجاجيه، جلس الي الكرسي الجلدي الاسود و صار ينظر الي لوحة المفاتيح، انها سهلة الاستعمال ، يحرك الذراع الايمن فتتغير السنوات في الشاشه الصغيره، يحرك الذراع الايسر فتتغير اسماء المناطق والمدن..همم.. الي اين يذهب ياترى؟..الي اوروبا المسيحيه... التي آمنت به

حرك المسيح الذراع الايمن الي سنة الف و ستمائه و خمسين..جميل! و الان الذراع الايسر الي..اوروبا..المسيحيه الي ترانسلفانيا * ..ثم ضغط على الزر الاحمر تحت الشاشه..زووووووووووووم آلة الزمن الزجاجيه تنطلق بسرعة خلال ظلمات الكون تنعكس كالمرآة النجوم و الكواكب على سطحها المتلالىء، بينما يقترب اكثر و اكثر، الكوكب الازرق

بدون تخطيط لاحظ انه يدخل الجزء الذي يهيمن عليه الليل من الكوكب الذي باركه و فداه، انه يطير في ظلام حالك فلم يخترع بنى البشر الكهرباء بعد..و خلال اختراق الغيوم الرماديه بدأت كريستالات الثلج الابيض تلتصق بزجاج الة الزمن و تحجب عنه الرؤيه...أخيرا هبط..انها احدى مدن تراسلفانيا..مؤشر الاله يقول ان اسمها براشوف

خرج المسيح من آلة الزمن..فشعر ببرد شديد و بنفحات من الهواء الشديد البروده يلفح جسمه خلال ثوبه الخفيف، فقرر التحرك بسرعه علّه يجد منطقة دافئه في هذه البلده..صار يمشي وقدمه الملفوفه بنعاله الجلدي تكاد تتجمد و هي تغوص في طبقة الثلج الخفيف الذي بدأ يتساقط..و لكنه يرى بيوت البلده، غير بعيده، يرى الاضاءة التى تنبعث من شموع و مصابيح البيوت من خلال الشبابيك و يشتم رائحة الفحم المحترق من مداخن التدفئه ...سأذهب هناك، قال لنفسه فهؤلاء اتباعي و الذين آمنوا بي، انا ابن الله ، سازور احد هذه البيوت و انتظر حتى الصباح، انا على ثقه من عطف خرافي الضاله..هم المسيحيون الصادقون ..اتباعي العطوفون

وصل الي اول البيوت على طرف هذه البلده، براشوف، و طرق الباب الخشبي، و هو ينتفض من البرد، لا مجيب، ربما لا يسمعون؟ و لكن الشموع دليل على ان احدا مازال مستيقظا بالبيت..انه لا يستطيع الانتظار فالبرد قارص، فاليذهب و يجرب البيت التالي..لم يبتعد الا عدة خطوات قبل ان يقتح الباب الذي طرقه اولا .. و صاح به صوت رجل، من هناك؟

عاد المسيح الي باب البيت الاول.. فرأى رجلا صغير الحجم، فقد نصف اسنانه، ينظر اليه بعين يبدوا عليها علامات الخوف، يحمل في يده سكينا..لاعليك يابنى، قال المسيح: لاتخش شيئا.. انا عابر سبيل، انا ابحث عن دفء يبقيني حتى الغد فأنطلق في سبيلي

فأدخله الرجل الي البيت..البيت مبنى من الحجارة و الخشب..و من طابقين، الطابق السفلي يحتوي على قطعة اثاث واحده فقط هي طاوله كبيره و بالغرفه باب مغلق ..وسلم يؤدي الي الطابق العلوى..تنبعث رائحة طعام..شعر المسيح بالجوع، لقد كان البرد الشديد هو السبب الذي جعله يحس بهذا الجوع...هل لديك اي طعام؟ سأل المسيح الرجل

لا ياسيدي لم يبق شيء غير ماء الشوربه، هذا كل مالدينا..انظر، و احضر قدرا تبقي في قاعه قطرات من شوربه. هل كانت شوربة خضار؟ اجاب الرجل: أتحلم انت؟ لم تذق عائلتى لحما منذ عيد الفصح.انا اعيش هنا مع زوجتى و امي و اولادي واختى الكبيره و انا الوحيد الذي يعولهم..واذا طال هذا الشتاء فسينتهي كل مخزوننا من الحبوب و الخضار المخلله منذ الصيف..لن يبقى شيء..القطيع الذهبي * يسيطر على الحقول الجنوبيه ولا يستطيع احد ان يذهب هناك..لقد سلب اولائك الهمج كل حيواناتنا، سرقوا اطفالا و بناتا ليحولوهم الى عبيدا لديهم
المسيح: ماوراء هذا الباب؟
الرجل: هذا المخزن..ولكن صدقنى سأفتحه لك لترى، لا يوجد به الا القليل..ليس هناك لحم ابدا
المسيح: افتحه اذن
الرجل : سترى ان كنت.. لا تصدق
و ذهب الرجل بكل ثقة ليفتح باب المخزن..جاهلا بمعجزات المسيح و قدراته
يصرخ الرجل مهوولا..يامسيح يابن الرب...طبعا لا يعرف هذاالرجل ان الذي معه هو المسيح بنفسه..كان المخزن مليئا بكل انواع اللحم المقدد من لحم الخنزير البري و البقر و الطيور السمينه..جرى الرجل الى اعلى ليوقظ عائلته النائمه..امي استيقظي لدينا لحم، اليينا زوجتى الحبيبه ..قومي لدينا لحم كثير، ايقظي الاولاد ليأكلوا..انه لحم حقيقي هذا ليس بحلم

جلس المسيح على الكرسي في صدر الطاوله..يتأمل افراد عائلة الرجل ينزلون ركضا على السلم و يدخلون الي المخزن..الاطفال، الام، الخاله رب العائله كلهم دخلوا في المخزن أخذوا يتخاطفون اللحم..ففخذ في يد طفل، و كتف لحم مقدد في فم الزوجه و الصغير يمصص الشحم من اصابعه..جلس المسيح و قد نسى جوعه، لا يشيء يسعد المسيح اكثرمن اسعاد رعيته..هؤلاء المسيحيون الفقراء..دعهم يتمتعون، فلقد مضي عهد طويل بينى و بين معجزاتي، قال ذلك لنفسه و هو سعيد.. قانع

فجأة، و بينما الجميع منهمك بالأكل في المخزن..سمع المسيح صوتا اشبه بالخربشة على الباب، قام و توجه الي الباب، فتحه و نظر، فرأى ذئبا اعياه البرد..ربما اشتم الذئب الجائع المسكين رائحة اللحم، سقط الذئب الذي بدت ضلوعه بارزة من فرط الجوع على قدمى المسيح ..مغشيا عليه..حمل المسيح الذئب بين يديه بعطف ، انه المسيح الرحيم بكل خلق ابيه من بشر ووحش . أدخله الي البيت، و أغلق الباب.وضع الذئب تحت الطاوله ليتدفأ..عرف المسيح ان الذئب جائع جدا..فذهب الي المخزن..حيث لم يلتفت او يلق اليه احد بال ، الكل منهمكين بالاكل..فاقتطع قطعة كبيره من لحم الخنزير..و ذهب ووضعها تحت انف الذئب..استيقظ الذئب الجائع و اكلها من يد المسيح..فشبع، و رفع الذئب عينه فرأى وجه المسيح.. فاستكان له..وشعر بالامتنان..وذهب الي قدميه.. و القي بجسده المتعب و نام

أحس المسيح بالراحة النفسيه لما عمل..ولكن ماهذا؟ لاحظ ان هناك شيئا يطير في البيت يحوم حول المخزن ..تبصر جيدا..لقد كانت خفّاشا صغيرا..يبدو انه هو الاخر جائع اشتم رائحة اللحم هذا الخفاش المسكين..أخذ المسيح بيده بقايا من اللحم الذي أكله الذئب على اصبعه و رفعه عاليا..حط الخفاش على اصبع المسيح.. و اكل من بقايا اللحم..شبع الخفّاش..فصار يطير سعيدا حول رأس المسيح..معبرا عن امتنانه..لهذا السيد العطوف

في تلك اللحظه تخرج اخت الرجل..خالة الاولاد.. و هي امرأة في السبعين لها شعر أبيض منكوش، بعد ان شبعت..يسيل الشحم من شفتيها و يديها..و تقف .. تنظر الي السيد المسيح الجالس على رأس الطاوله الخشبيه الوحيده في البيت..ثم تحرك عينيها الي اسفل فترى الذئب النائم على قدميه..تنظر الي أعلى..فتشاهد الخفاش الذي يطير حول رأس السيد المسيح..و فجأة تطلق صيحة عاليه يتجمع على اثرها كل من في البيت...درآآآآآآآآآكولا

يخرج الرجل من بين اطفاله و زوجته...انت دراكولا؟..لقد سحرتنا..لقد أغويتنا ايها الشيطان

المسيح: لا..يا ابنائي..لاتخشوا شيئا..انا...وقبل ان يكمل كلامه تجرى زوجة الرجل و تلتقط الصليب الخشبي المعلق على الحائط و ترفعه في وجه المسيح...و تصيح به و رائحة الثوم تملأ نفسها: بأسم السيد المسيح اخسأ ..بأسم الرب ابتعد..ينظر المسيح الي الصليب ..فتنبض كفاه بالالم الذي أحس به عندما تم صلبه...وقال في نفسه مابال هؤلاء البشر انها الة اعدامي و قتلي..تلك التي يقدسون..ما بال هؤلاء الرعيه...انهم يقدسون الة قتلي..و احس بالأم..فتراجع الي الوراء بتقزز من رائحة الثوم المنبعثه من فم الزوجه

أنظروا انه دراكولا..انه يخاف الصليب الخشبي.. يجيب المسيح : ابنتي انه ليس الصليب الذي أخاف..انها رائحة الثوم الكريهه بفمك ..تصيح الزوجه بهيستيريا..انه دراكولا بحق المسيح، يخاف الصليب و يكره الثوم ..فالتخسأ بأسم المسيح ..وهنا يصيح الرجل صاحب البيت و هو مندفع خارج البيت، سأنادى الحاكم و أهل البلده ، يجب ان نحرق دراكولا...ليباركنا الرب و يرحمنا..و يفتح الباب و صياحه يملأ الفضاء بالصراخ مستنجدا...ينتبه السيد المسيح لما حدث فيندفع من خلف الرجل المرتعب ، يزيحه جانبا ..يجري غير عابيء ببرودة الثلج الذي يتغلغل نعاله الجلدي البسيط و يلفح ثوبه الابيض الخفيف..يبلغ آلة الزمن التى غطاها ثلج المساء .. يحرك الذراع الايمن الي درب التبانه و الذراع الايسر الي العام الفين و خمسه من سنين ابيه الرب.. يضغط على الزر الاحمر..و زووووووووووووم الي الفضاء الخارجي


بونا سيارا*

بن كريشان

بيكر بروو: بالالماني تخميرة الخباز
ترانسلفانيا : الاقليم الاوسط من رومانيا..حيث توجد اسطورة دراكولا
براشوف : منتجع تزلج تقع قلعة دراكولا على بعد ثلاثين كيلو مترا منه
القطيع الذهبي : الاسم الذي يطلقه الاوروبيون الشرقيون على الاتراك العثمانيين الذين يرتدون خوذات ذهبيه
بونا سيارا : مساء الخير بالروماني

إرسال تعليق

0 تعليقات